الزهور ... في عالم الفن والوجدان
من المعروف في علم الجمال أن الفنان لا يقنع بما يراه في
الطبيعة ، بل يحاول ابتکار نوع آخر من الجمال يصور به
خياله و مشاعره ، بشكل يوقظ في أنفسنا الشعور باللذة ، أو
الارتياح بتذوق بلاغة التعبير عن معان جمالية يمكن إدراكها
وفهمها .
والفرق بين جمال الفن و جمال الطبيعة ، كالفرق بين
القلب والعقل ، أو العاطفة والمنطق ، أو بين الحب
والحكمة ... ومن هذه الفروق نستطيع أن ندرك ما هي
مقومات الفن وأهدافه ، ونستطيع أن نتصور الفنان
يرنو إلى باقة من الأزهار الطبيعية .. ويسبح في أطياف
الألوان العبقرية .. ثم يصوغها في لوحة تفيض بمعاني الجمال
والألفة والشاعرية . وإذا كانت دعائم الفن هي الجمال
والعاطفة والحب .. فما أحرانا أن نراها مجتمعة في خمائل
الزهور يانعة رقيقة كلمات مرهفة حانية أبدعتها يد الخالق
عز وجل ! ولا غرو أن نرى معظم الفنانين - بل جميعهم -
لا تخلو أعمالهم من رسم الزهور ، حتى إن كثير من الدول ،
تقيم لها العروض الخاصة ، سواء أكانت مهرجانات للزهور
الطبيعية أو معارض فنية للوحات الفنانين ..
ولعل أكبر هذه المهرجانات العالمية هو ما يقام - سنويا
- بفرنسا على مساحة تبلغ خمسة وثلاثين هکتارة ، ويزوره
أكثر من مليون مشاهد من مختلف أنحاء المعمورة ..
.. وقد بلغ من حب الشعب للزهور أن بلغ الإنفاق
السنوي على شرائها خمسة مليارات فرنك ! إنه حب الفن
وتذوقه الذي يهذب الوجدان ويفتح البصائر على آیات
الجمال !
الزهور في اليابان
*الزهور في اليابان لغة العواطف والتفاهم ، وما أكثر
ما قرأت قبلها عن الفن الياباني وعشقه الدائم للزهور ..
فالزهرة في لوحات اليابانيين هي قاسم مشترك وعنصر
أساسي ، ولا غرو أن تكون زهرة ( الشری ) رمزا
البلادهم ! وإذا كان الفن الياباني قد اتخذ طابعه الکلاسیکی
الشهير من حيث ( التكنيك ) رمزا للأصالة والعراقة ، فقد
اتخذ الزهرة طابعا للرومانسية وحب الجمال ! كانت زياراتنا
المتلاحقة للمتنزهات الشاسعة عبارة عن بحث في متحف
طبيعي للزهور. و يحلو للمواطن الياباني - أيا كانت ثقافته -
أن يحدثك عن زهرة بعينها وكأنه متخصص في علم
النبات .. وإذا ما اضطرتك الظروف أن تطأ بقدمك إحدى
الزهرات - حتى لو كانت وليدة صغيرة - تأوه الياباني ألما
وكأنك تدوس على رئتيه ! وبكل الحب والأدب يحاول أن
يقيم الزهرة مرة أخرى ويربت عليها في مناجاة صامتة . وإذا
ما طاب التنزه والمرح .. سار اليابانيون في جماعات يشدون
بنشيدهم الوطني : ساکورا ساكورا .. وما هذه
( الساكورا ) إلا تلك الزهرة البيضاء الجميلة التي لا يخلو من
أشجارها مكان في اليابان ! والناس هناك يعشقون الزهور
بدرجة جنونية ، لا يصل إليها أي شعب في العالم . فالزهرة
تساوي عند الرجل الياباني ولدأ من أولاده ، تجدها في كل
حجرات بیته ، وفي الشرفات والنوافذ ، وفي حدائق معلقة
فوق أسطح المنازل ، و في مكاتب العمل وفي ردهات المباني
العامة .. وفي كل حياتهم !
والياباني يمتلك عشرات الأنواع من الزهور في حديقة
بيته ، يقضي معها أمتع الأوقات في تأملها ورعايتها
و تنسيقها . وأذكر أنني كنت في زيارة لأحد المعارف
اليابانيين في مدينة : ( ناجويا ) ، تلك المدينة الدينية
العريقة ، وعندما دلفنا من باب الحديقة إلى الممر الموصل إلى
داخل البيت ، فوجئت بأن مضيفى يستوقفنی
نصف ساعة يحدثني عن الزهور في حماس وعاطفة جياشة ،
تعلو نبراته و تنخفض حتى تصل إلى درجة الهمس الحالم .
ولما لم تسعفه اللغة الإنجليزية .التي أجيدها - اندفع يتحدث باليابانية
ويغني بأشعار لم أفهمها ولكنيبما يقول ! المستحيل
أن ترى شارع أو ميدان في كل أرجاءاليابان دون وجود الحدائق المزدهرة
بخمائل الزهور ، و يرجععلماء النفسهذا الشعور الجارف بجمال الأزهار
اليابانيين إلى معاناة الشعب القاسية من ويلات الحرب العالمية
الثانية ، والمعايشة اليومية للبراكين والزلازل ، مما جعل
الناس يعشقون عطاء الأرض ويجدون السلوى في جمالها
الطبيعي .. وليس هناك فيما تنبت الأرض أجمل من
الزهور !
وبنفس القدر ، أحبت المرأة اليابانية الزهور ..
واستخدمتها لغة طيعة في التعبير عن عواطفها : فإذا وضعتها
ان بشكل معين فإنها تقول بغير کلام : جملة شوق أو صرخة
إذا احتجاج أو زفرة ألم أو مناجاة أو عتاب ! وهناك شعب
اسيوي آخر له مع الزهور شؤون وشجون .. هو شعب
الصين الذي يتخذ من زهرة ( الكريز انتم ) رمزا لبلاده !
وللحديث عنه مجال آخر .
لغة الألوان :
وقد اختلفت الآراء والتفسيرات حول ما ترمي إليه ألوان
الزهور ، ولكن هذه التأويلات غالبا ما تخضع للمزاج
الشخصي قبل أن تكون حقائق متفق عليها ؛ فيقولون إن
الزهور المهداة إلى المريض يجب أن تكون ذات ألوان تتراوح
لوحة ديما رسمها عام ۱۸۹۵
بين ( البمبى ) والأزرق الفاتح .. ولكني عندما كنت
بصدد زيارة صديق مريض ، وقصدت محلا شهيرة يعتبر
صاحبه خبيرا في مثل هذه الأمور ، طلبت منه باقة زهور
وأوضحت له الغرض منها ، فقال بلغة الواثق من علمه
وخبرته : خذ الألوان المبهجة وأكثر من الأحمر والأبيض ،
فإن المريض محتاج لمثل هذه الألوان .. وعندئذ عرفت أنها
مسألة تقديرية وليست نصوصا علمية ! ويقولون إن الزهور
الدافئة ( اللون الأحمر ومشتقاته ) تقدم في الأفراح
والمناسبات السعيدة .. ولكني عندما تتاح لي فرصة حضور
مثل هذه المناسبات السارة ، أرى باقات من كل الألوان دون
استثناء .. أما القول بأن الزهور ذات اللونين البنفسجي
والأزرق الغامق ، تقدم في الأحزان .. فأعتقد أن هذين
اللونين الباردین إذا اجتمعا فلا بد وأن يتركا في النف۔
إحساس بالأسى والقتامة والانطواء ، وربما كان مبعث هذا
الاعتقاد هو الواقع الذي يدركه كل فنان يتعامل مع الألوان .
وبغض النظر عن مدلولات الألوان والاجتهادات المتفاوتة في
تفسيرها ، فإن الزهور أقرب إلى القلب والروح والوجدان
و أمتع للعين من أي شيء آخر ، ولعل كثرة ما أثير حولها من
حدیث و أبحاث خير دليل على ما تحمله من مضامين و إيحاءات
معنوية شتی ، يجد كل إنسان فيها بغيته وصدی ،
الانفعالاته ، أيا كانت هذه الانفعالات !
وقد ذهب الطب النفسي إلى أبعد من ذلك ، وأكد أن
الكل إنسان ميوله الخاصة نحو زهرة معينة وعطر بذاته ، مما
يدل على شخصيته وحالته النفسية والاجتماعية والثقافية
ووضعوا تعريفة - حسب اجتهاداتهم - لكل لون من
الألوان :
الأخضر :
يوحي بالراحة والنماء والتطور .
الأحمر :
وهو أكثر الألوان استحسانا عند النساء ، فدلالته القدرة
على الإنجاب ، وتوقد العاطفة
الأبيض :
يدل على الطهر والنقاء والصفاء ، والأمل في الشفاء .
البرتقالي :
قرين لرقة المشاعر والأحاسيس .
البنفسجي :
يعبر عن الحزن والألم .
الأزرق :
معناه الانطواء و التقوقع .
أما عند محبي الزهور وهواة الرموز ، فهناك أنواع بعينها
تقول تعبيرات بدون کلام ، فمثلا زهرة شقائق النعمان :
معناها لماذا هجرتنی ؟ وزهرة السوسن : أنت تسلبين
شعوری ، وزهرة القرنفل : لقد خاب فيك ظني ! وزهرة
النرجس أنت أناني ، ، وزهرة الزينيا : إنذار ! احذرى
العواقب !... وكما ذكرنا ، فهذه ليست حقائق علمية ،
ولكنها اجتهادات ربما تدخلت في صياغتها المداعبة أكثر من
أي شيء آخر !
قصص بين العلم و الأساطير :
وكثيرا ما نقرأ عن الزهور في علم النبات قصص غريبة
ولكنها حقيقة علمية مؤكدة : الزهور التي تتمتع بحساسية
مرهفة ، ، فتحزن وتفرح وتتفتح وتكتئب و ترحب بفراشة
و تغلق وريقاتها دون فراشة أخرى .. والزهور الفنانة التي
تستمتع بالموسيقي وتبدو أكثر إشراقة و نضارة المعروفة
كلاسيكية ). ما تنمو بشكل مخالف إذا ( استمعت الموسيقي ( الجاز )
و( الروكآند رول ) وزهرة عباد يتجه قرصها الدائرى دائما
إلى فرص .. حتى إذا ما غابت و حل الظلام ، تصاب الزهرة
با کتاب و تنكس رأسها إلى الأرض .. ولكن مع إشراقة
الشمس في الصباح مرة أخرى ، تعود الفرحة إلى زهرة عباد
الشمس ، وتتألق ألوانها و ترتسم ابتسامة عريضة هي قرصها
الكبير ! وزهرات أخرى تنكمش في استحياء عذري إذا ما
مست وريقاتها أنامل الإنسان .. إلى آخر هذه الظواهر
الطبيعية الثابتة ! .
أما الأساطير ، فتزخر الكتب بقصصها وحكاياها
المثيرة : فلزهرة ( الكاميليا ) عند الآسيويين منزلة خاصة .
وتقرأ الكثير عن الأساطير المتعلقة بالزهور : فهناك بعض
القبائل في اسيا يثبتون زهرة بعينها تسمى ( إيزى ) في
شعورهم وثيابهم ويعتقدون أنها تشفي المرضى من الجراح
والآلام ، وتبث السعادة في قلوب المحبين ..
- و كليوباترا في لقائها الأول مع أنطونيو ، أمرت بأن
تقطف لها زهرات اللوتس من على ضفاف النيل،
واستخرجت منها عطر نافذا بار که الكهنة ، فأسلم القائد
الروماني قلبه لفاتنة مصر بعد أن سحره العطر الجميل ، ثم
أمرت بأن يصنعوا لها من الزهور بساطة بلغ سمكه (بوصات )
لتفرش به القصر تحت أقدام أنطونيو و ليبلغ سحر
الزهور مداه !
. وتتعدد الحكايا .. وتتشعب القصص والأحاديث ،
ولكن الحقيقة ماثلة أمامنا تؤكد لنا - في جمال الزهور -
عظمة الخالق فيما أبدع وصور ، وسبحان الله العظيم !
المرجع - روائع الفن العالمي