العازفة

في استعراضاتنا المدارس الشهيرة في التاريخ ، لم

نتوقف أمام مدرسة بريطانية تمثل حركة أو ظاهرة شاملة 

تلقى بإشعاعاتها وتأثيراتها على مسيرة الفن العالمي ، كما حدث

في إيطاليا أو بلاد الشمال الأوروبي ( هولندا وبلجيكا ) أوفرنسا 

مثلا . ذلك لأن البريطاني كعادة الإنجليزأنفسهم - فن 

محافظ ملتزم في كل مراحل التحولات الكثيرة

التي غيرت مسار الفكر العالمي عبر عصوره المتعاقبة . حتی

أن التيارات التي كانت تهب على الجزر البريطانية من الشمال

أو الشرق أو الجنوب .. لم تستطع أن تعصف بتقاليد الفن

البريطاني أو تطبعه بأساليبها المستحدثة إلا بقدر ضئيل ، بينما

يواصل الطابع البريطاني تطوره الطبيعي في تمهل واستيعاب

وتغير بطيء لا يكاد أن يحس .. و بالتالى ، لم يظهر في إنجلترا

ما يمكن أن نطلق عليه ثورة فنية أو تحويل شامل ينتج عنه

مدرسة جديدة تفاجىء حركة الإبداع العالمى مثلما حدث

في إيطاليا وبلاد الشمال و فرنسا مثلا ، ومن الملاحظ أن

الصور الشخصية تمثل جانبا أساسية عند معظم الفنانين

الإنجليز .. إن لم تمثل الجانب الأكبر من إبداعاتهم .. حتى

إننا رأينا أن فناني القرن الثامن عشر العظام من أمثال وليام

هوجارت و توماس هدسون وجوشوا رينولدز وتوماس

جو نسبرو وجورج رومنی " وغيرهم . كانوا من فانی

رسم الأشخاص ، وهم الذين سجلوا شخصيات عصر هم

في لوحات خالدة تعمر بها المتاحف و صفحات التاريخ ، ومن

العسير أن نتذكر أي شخصية بريطانية لعبت دورا في

السياسة أو الفكر أو المجتمع .. إلا ونجد لها صورة من أعمال

هؤلاء الفنانين العظام . وظلت هذه الاهتمامات الفنية سائدة

حتى منتصف القرن التاسع عشر ، رأينا بعدها تطورا في

أساليب الأداء ( التكنيك ) فرضته التيارات الجديدة في

مستحدثات علوم البصريات والاكتشافات الجديدة في

تحلیل ضوء

الشمس وألوان الطيف فيما عرف بالمدرسة الانطباعية  والتي انبثقت من باريس حينئداك ,ولو ان التغيير 

كان متزنة و ملتزما إلى حد كبير في بريطانيا بعكس ما حدث

في فرنسا من التغيرات الجذرية التي أحدثت انقلابا فكريا

شاملا بين فناني العالم أجمع حيث تطور سريعا وقاد إلى فنون

القرن العشرين .

وإذا كنا نتحدث عن هذا الالتزام في الفن البريطاني في

القرون الحديثة .. فما بالنا بالقرنين السادس عشر والسابع

عشر ؟ كان الفن في إنجلترا وقتها فنا نبيلا تنم صياغته عن

إخلاص الفنان وسمو مكانه ومكانته في المجتمع ، و لم يسخر

لخدمة هدف واحد كما حدث في فن عصر النهضة الذهبي

الإيطالي .. ولم يوظف لخدمة البلاد كما فعل الفنانون

الفلمنكيون في دول الشمال الأوروبي في هولندا وبلجيكا ..

ولكن الفنان في بريطانيا كان سيد الموقف .. يرسم ما

يحلو له ، ويحلق في جماليات الحياة من حوله ، ويختار ما تتفتح

له بصيرته ووجدانه . وكانت سيدات المجتمع وقادته

وعناصره البشرية المرموقة .. هي المنهل الإبداعي للفنانين ..

ولوحة اليوم هي من روائع الفن العالمي البريطاني .. كما

أنها من أشهر اللوحات التي تطالعنا دائما كنموذج راق

للجمال الذي يبعث على التأمل والاعجاب الهادي» في غير

إثارة ولا انفعال .. رسمها الفنان أوراتسيو جنتلیتشي في عام

۱۹۱۰ وأسماها : العازفة الفاتنة . وربما يلفت اسم الفنان

.

عن الفن البريطاني ، وهذه حقيقة .. فقد ولد الفنان في مدينة

بيرا في إيطاليا عام 1963 وتلقى دراسته الفنية في روما

( ولذلك يظهر جليا طابع فن عصر النهضة على تفاصيل

اللوحة)، وقد مارس عمله الفني في مطلع شبابه في روما

وجنوا وتورينو .. ثم هاجر إلى باريس .. وعندما ذاعت

شهرته كفنان مرموق ، قصد لندن واستقر فيها وأصبح

مواطن بريطانيا . منغمسا في التقاليد السائدة في المجتمع .

وعاش حياته كأحد الفنانين الإنجليز في عصره ، حتى توفي

في لندن ۱۹۳۹ .

والعازفة الفاتنة هي ابنة الفنان أو راتسيو ، واسمها

آر تمسها ، وقد رسمها الفنان بعاطفة أبوية جياشة تنضح بالحب

السامي في غير تكلف أو ابتذال . بل أضفى عليها براءة

وجمالا وجوة بديعة تتألق إيحاءاته الملهمة من خلال هذه

الرموز الشاعرية بين الأنغام والألحان والسكينة والتأمل

الإبداعي الرفيع . وقد عرفت أرتمسية في التاريخ بأنها كانت

واحدة من ألمع نجوم المجتمع البريطاني في أوائل القرن السابع

عشر ، وأكثرهن ثقافة وتألقا في المحافل الفكرية .

والمجتمعات الراقية . ولننظر سوية إلى هذه اللوحة . ولنتأمل

تلك المعاني التي فجرت ينابيعها لمسات الفن الرقيقة الحانية

الدافئة !

مقتبس عن كتاب - روائع الفن العالمي ,جمال قطب