ديلاكروا

الانفعال والثورة وسحر الشرق

كان شابا قلقا منطويا على نفسه خجولا مفرط الحساسية .. وذلك من هول ما عاناه طفلا أو صبيا أو شابا حتى قدر له أن يتولى زعامة الحركة الرومانتيكية العظيمة تلك التي اقترنت باسم الكاتب الشهير « فيكتور هوجو ) في میدان الأدب في أوائل القرن الماضي .
إنه ( ديلاكروا ) الفنان الذي سجل في التاريخ كأحد الرواد الذين حرروا الحركة الفنية من جمود الكلاسيكية و قيود الأكاديمية ، وجعل مثاليات الفن تتسع لتشمل قوة التعبير المباشر عن العاطفة المتوقدة و الخيال المتوهج ... هنا كانت المعركة التي نشبت بين الكلاسيكيين والرومانتيكيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر . فالكلاسيكيون قد اهتموا بالخطوط وحبكتها الهندسية ،
و كان كل همهم بزعامة ( دافيد ) هو مثالية التعبير ووقاره المستمد من الميثولوجيات القديمة مهما كان هذا الوقار جامدا
باردة ، ومرة أخرى نجدهم يتحولون إلى ( الجمال ) في عهد زعامة ( آنجر ) .. جمال الخطوط المنسابة في رقة ورخاوة .
و بعد أن دالت دولة الكلاسيكيون ، وظهرت الرومانتيكية بزعامة ( تيودور جيريكو ) ومن بعده فناننا ديلاكروا ..
فتحوا أبواب التعبير وتفاعل الوجدان على مصراعيه ..
واستمتع الفنانون بتجربتهم الفنية مع الألوان والحركة وتدفق الحياة . وسجلوا أحداث عصرهم و فواجعها ، واستلهموا أحداث التاريخ وحروبه في لوحات دراماتيكية .
ولعل من أشهر لوحات ديلاكروا هي لوحته عن مذبحة شیرز التي رسمها عام ١٨٢٤ بعد أن انفعل بما اقترفه الأتراك من مذابح أثناء حرب الاستقلال اليونانية .

الخيول و البحر

ومن الغريب أن ديلاكروا لم يكنف بعالمه الفني التشكيلي فحسب ، بل إن يومياته تصل إلى أغوار النفس وتبحث في أعمق الأعماق الوجدانية ، وعندما يتناول في كتاباته موضوعات : الإلهام و العبقرية و الخيال والحلم ، متخذا من نفسه ميدانا للبحث والتنقيب .. كان يصل إلى قمة تألقه في التحليل النفسي كأحد المتخصصين الرواد . وقد بلغ في ذلك حد جعله مصدر من مصادر علم النفس ، حتى أننا رأينا ( سيجموند فرويد ) في مؤلفاته عن التحليل النفسي بعد ذلك ، يتخذ من أفكار ديلاكروا مرجعا من مراجعه الأساسية . و لم تقتصر مؤلفاته الأدبية على هذه المذكرات ، أو ( اليوميات ) التي تعتبر أبحاثا تاريخية في الفن الفرنسي ، بل يشتمل تراثه الأدبي كذلك على رسائل عامة هي آيات أدبية رفيعة المستوى تقع في خمسة أجزاء ، أما كتاباته الفلسفية والنقدية عن مشاهير الفنانين ، فتقع في مجلدين كبيرين ، بجانب العشرات من القصص والمسرحيات التي نافس بها كبار الأدباء المتخصصين |
ولعل هذا التأثير الأدبى يرجع إلى ولعه بأعمال مشاهير الأدباء والشعراء البريطانيين عندما سافر إلى لندن ( مرتع الرومانتيكية ) عام ١٨٢٥ ، و در س هناك - بجانب الفن - أعمال والتر سکوت و ملتون و بایرون .. كما عكف على استيعاب أعمال شكسبير الخالدة !
أما المرحلة الثانية التي كان لها وقع عظيم في نفسه فهی رحلته إلى المغرب والجزائر عام ۱۸۳۲ . حيث بهرته أضواء الشرق وفتنته مناظر الطبيعة ، والجياد العربية الأصيلة وظلت إيحاءات هذه الرحلة عالقة بخياله طوال حياته ، وخلدها في لوحات كثيرة تصور ( نساء من الجزائر ) و الفرسان العرب ، والسباق ، والقنص وغير ذلك من مظاهر الحياة في الشمال الأفريقي وطابعه وتراثه الإسلامی الأصيل . وتعتبر لوحته الشهيرة التي رسمها عام ١٨٣٤ ( نساء من الجزائر )وقد افتتن فيها بالطابع الشرقي و نقوش (الأرابيسك ) المثيرة ، والبيوتات الموسرة بما تتميز به آنذاك من الدعة والسكينة والشاعرية والجمال ، من أهم ملامح تأثره بأجواء الشرق .
واستمر أو جين ديلاكروا في تألقه حتى صار ألمع الفنانين في عصره ، حيث كلف بزخرفة قصور : بوربون ولوكسمبورج واللوفر .. مما جعله محط الأنظار في أوروبا كلها ، وقد زخرت كتابات شعرائها وفلاسفتها بالثناء على عبقريته الفذة في مجالات الفن والأدب على السواء . و مات ديلاكروا عام ١٨٦٣ عن خمس وستين سنة عامرة بالعطاء الخالد ، والفكر الإنساني الرفيع .