-->
Ra'ed Al-khawaldeh Art Ra'ed Al-khawaldeh Art

حسناء نجد بين شاعر العرب وتقاليد القبيلة .

عنترة بن شداد العبسي وعبلة 


عبلة

هكذا رسم احد الفنانين العالميين عبلة فاتنة الصحراء

 

قال « ابن رشيق » في كتابه ( العمدة » الذي

ظهر في القرن الحادي عشر ، وهو يصف العرب

الأقدمين :

ا... وكانوا لا يهنئون أنفسهم إلا بغلام يولد

أو شاعر ينبغ فيهم .... »!

فقد كان للشعر والشعراء منزلة سامية ومكانة

لاتدانيها مكانة .. وعندما جاء الإسلام بمثله العليا

وأخلاقياته وكتابه المبين ليؤسس مجتمعا جديدا

وليحدث ثورة عالمية بما يتصل بها من سبل التنوير

والجهاد والنضال ، كان للشعر والشعراء دور في بناء

صرح الرسالة .. ولكنه دور ذو ملامح و سمات خاصة


وإنما ينبع من قرائح شعراء أحرار ، لا تستعبدهم

مطالب الحياة ومقاصد المال ووسائل النفاق ..

ولذلك ، كان لا بد من دعاة متجردین ، يتسامون إلى

الأهداف النبيلة التي تتوخاها الثورات

التاريخية الكبرى وتطوير الحياة ونضح الضمير

البشري في وجدان الفنان الإنسان !...

ولذلك رأينا جماعة من الشعراء العرب وقد

اعتصموا بالحرية و تغلبت ضمائرهم اليقظة على النمطية

وسلطان الوراثة .. فأسهموا بمواهبهم وعبقرياتهم

الشعرية مع بناة الإسلام وأبطال انتصاراته ، وكان

أعلام هذه الجماعة هم أبطال من الشعراء.. أو شعراء

من الأبطال .. وهم :

طرفة وعنترة ولبيد .. ولعل أبرزهم جميعا في هذا

الميدان هو عنترة بن شداد بن عمرو حيث توالت

أخباره .. وعمت سيرته الشرق والغرب .. وقد

کر مته السنة الشريفة عندما روي في حديث مسند أن

رسول الله عن أنشد قول عنترة :
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتی أنال به کریم المأكل

وقال عليه الصلاة والسلام : «ما وصف لي

أعرابي قط ، فأحببت أن أراه إلا عنترة ! » .

كما روي عن عمر بن الخطاب أنه سأل الحطيئة :

- کیف کنتم في حربكم ؟
فأجابه :
- « كنا ألف فارس حازم، وكان فارسنا عنترة .

فكنا نحمل إذا حمل ، ونحجم إذا احجم !).

فقال عمر : صدقت ،!

وقد عرف عن عنترة أنه قال عن نفسه يصف کره

وفره :

كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما . وأحجم إذا

رأيت الإحجام حزما . ولا أدخل موضعا قبل أن أرى

لي فيه مخرجا .... »

•• ولد فارسنا عبدا من جارية حبشية تدعى

زبيبة . كان أبوه قد سباها في إحدى غاراته على القبائل

المتصارعة ، وكان ميلاده بنجد في الربع الأول من

القرن السادس الميلادي . وكانت تقاليد الجاهلية

الحاكمة تقضي باستعباد أولاد الإماء ... ولا يعتقون

ولا ينالون حريتهم إلا بعد أن يظهروا تجابة أو بطولة

أو مواهب خارقة ، وحينئذ يكون الأبن جديرا

بالحرية والانتساب إلى أبيه ..

فبينا نرى أن أباه شريف من أشراف قبيلة عبس

المضرية ، نرى أن عنترة وقد نشأ نشأة العبيد يرعی

الإبل والخيل الضاربة في شعاب نجد .. وظهرت على

الفتی نوازع العبقرية و الفصاحة والشجاعة والفتو

لقد استمد من عادات النجديين وما طبعوا عليه

من البلاغة والفصاحة والفروسية . كما ورث عن أبيه

الاعتداد بالنفس وكرم العرب ونبل الأشراف ..


البداوة

الاب . اعتداد بالنفس ونخوة العروبة ونبل الأشراف


و بين حين وآخر ، يتحدث الناس عما ينعم به العبد من

هذه الصفات .. ولكنه ما زال عبدا تكبل قيود الرق

عزيمته وانطلاقته المتوثبة ا وانسابت أشعاره شجية

متدفقة يمني بها نفسه ، وفيها يقول :

إن كنت في عدد العبيد فهمتی

فوق الثريا والسماك الأعزل !

و واتته الفرصة لكي ينال حريته وينتسب إلى أبيه

عندما أغارت قبيلة طيء على قبيلته « عبس

وألحقت بها هزيمة نكراء، وكان ذلك في غيبة من عنترة

ورفاقه الشباب ، حيث كانوا ضاربين مع إبلهم

وخيولهم في شعاب نجد بعيدا عن مضارب قبيلتهم .

وانتهت هذه الهجمة غير المتكافئة بأن أسرت طیء أبناء

عبس و بناتها ضمن ما نهبوه من الإبل والمؤن والمتاع ..

فاتجهت القبيلة بأنظارها إلى فارسها الناشىء عنترة ..

فأمره أبوه  شداد بالكر على طيء واستخلاص السبايا

والغنائم .. ولكن الفتي وجدها فرصته الساحة لكي


عنترة بين رؤوس القبيلة

عنترة في قبيلته

يمنحه أبوه الحرية وينسبه إليه ..

وكانت صفقة رابحة لكل منهما .. فقد

عنترة انتصارا جعله بطلا لقبيلته دون منازع ..

و بذلك ، أصبح عنترة بن شداد حامی حمی عبس

وبطلها المغوار و حامل لوائها المظفر وشاعرها الملهم ..

بل و شاعر العروبة في عصره !..

واستمرأ النصر والشهرة والبطولة ، فأخذ يقود

كتائبه في غزوات متصلة على طيء وغطفان و حنيفة

وغيرها من أعداء قبيلته .. وكانت قيادته الجسورة

لا تعني إلا النصر ! وأخذ الناس في كل مكان ..

يتغنون بانتصاراته الرائعة كما يتغنون في الوقت ذاته

بأشعاره الحماسية الملهمة ! وكانت أشعاره

کبطولاته .. مليئة بالقوة زاخرة بأسباب الثقة والبأس

والحكمة كقوله :

إلى امرؤ من خير عبس منصبا

شطري . وأحمی سائرى بالمنصل

والخيل تعلم والفوارس أننی

فرقت جمعهم بضربة فيصل

ولقد أبيت على الطوى وأظله

حتى انال به كريم المأكل


الحب الكبير


وبالرغم من حريته وانتسابه لأبيه ، إلا أنه كان

يعاني من الام نفسية مبرحة .. ليس مصدرها حساده

والواشون به والحاقدون عليه .. ولكن مصدرها

الأساسي هو حبه لابنة عمه عبلة .. لقد هام بها الفارس

الشاعر هياما فاق كل هيام .. و كان حبا يائسا من

طرف واحد .. فعبلة وأبوها - وقد تغلبت عليهما

عنصرية اللون وقبلية التفاخر بالنسب وتقاليد النبش

في أصل الأم و الحال .. و كل هذه الاعتبارات المتوارثة

- ولذلك نراهما ينفران من الحبيب بطل الأبطال


عنترة
عنترة فارس العرب 


وأشعر الشعراء .. لسواد بشر ته ونقص نسبه من ناحية

أمه . وظن الفتى أن أمجاده البطولية وعبقريته الفنية

كفيلة بأن تلين له القلوب المتحجرة .. وظل يسترضی

عبلة وأباها ، ويقدم لهما ولقبيلته النصر تلو النصر ..

ويحرم على قلبه أن يخفق بحب غير حب ابنة عمه ..

وكانت كلما افتر ثغرها عن بسمة وضاءة له .. ركب

من أجلها الصعاب ، وانهمرت أشعاره على خاطره

بالأبيات العبقرية البليغة ..

وكانت عبلة في قومها تحظى بملاحة نادرة

.. تمشی مختالة بين رفيقاتها و كأن الأرض لم تسعها ،

وبخاصة عندما تتهاوى إلى مسامعها أبيات الغزل

المشبوب الذي نظمه فيها حبيبها الولهان ويتغنى به

فتيات القبيلة وفتيانها .. ولكن همسات العذارى

وغمزاتهن ولمزاتهن حول سواد وجهه وشق بشفته

ونسب أمه تبدد أحلامها .. وتطبع على جبينها مسحة

من الألم .. وتعمل جاهدة على أن تغلق دونه قلبها ..

فكانت تعيش في صراع نفسي مرير بين عاطفتها

المتفتحة المتطلعة إلى سلطان البطولة والأطياف الوردية

الشاعرية وبين الميراث الثقيل المتراكم عبر القرون من

تلك التقاليد التي تحكم الحياة القبلية ولا سبيل إلى

تجاهلها أو الفكاك منها .. غير أن الفتاة سواء أكانت قد

بادلت فارسها حبا بحب أو كانت تنفر منه كما تذكر

بعض الروايات .. لا تملك من أمرها شيئا إلا من خلال

ما يراه أبوها .. بل وأمها كذلك .. وهل تستوى

الأنساب التي هي مدعاة للتفاخر والتسامي في ذلك

الوقت بهذه السهولة ؟. وإذا تجاوز عنها الأب بحكمته

ورجاحة عقله .. فماذا يبقى للأم لكي تحوك حوله

الروايات نحو الجارية زبيبة التي لا تتمتع باي حصانة

عائلية ولا تنظر نساء القبيلة إليها إلا بنظرات

الاحتقار التي تستحقها السبايا من الخدم والعبيد ؟!

و كلما ضاقت الدنيا بالشاعر الهائم .. وجثم اليأس

على أنفاسه ، لجأ إلى قريحته الشعرية يستنطقها


فرسان العرب
فرسان العرب ، للفنان فرومنتان 1865


ويتغنى بغزله النابع من قلبه المتيم ، يؤكد فيه أن عبلة

ذاتها تعلم مقدار حبه لها :

ولئن سألت بذاك عبلة خبرت

أن لا أريد من النساء سواها

ويغامر الرجل بحياته ويخوض المعارك الضارية ،

ولا يصرفه عن ذکرها و تخيل صورتها أمامه شواغل

الحرب ، بل لقد اتخذ من السيوف حتى وهي تصيب

جسده وتسيل دمه ، ومن لمعانها و بريقها وبياضها

وحمرتها .. اتخذ من هذا كله صورة لثغر عبلة الباسم

فيود تقبيل سيوف الأعداء :

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

منی وبیض الهند تقطر من دمی

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

ويعود من غزواته .. ويحاول أن يسترضى عمه ..

ويرق قلب والده شداد .. فينضم إلى ابنه في طلب

الفتاة ..

ولكن العم .. ومن خلفه زوجته المعتدة

بحسبه ونسبها يزدادان إصرارا على الرفض والعناد ..

ويخفف الأب من عذاب ولده

ويعده بانفراج

الأزمة غدا أو بعد غد ويزداد الغد طولا وبعدا

وتضطرم النار في قلب المحب المتعجل للقاء حبيبته ..

وينشد قائلا :

قالوا : اللقاء غدا بمنع اللوى 

ويطول شوق المستهام إلى غدا


وينفد صبره .. ويتحول يأسه إلى نار يكتوي بها

و تستعر أنفاسه حتى يخيل إليه أن أنفاسه 

المستعرة تذيب الحديد إذا نفثها في المبرد الصلب :
وتخال انفاسي إذا رددتها

بين الطلول محت نقوش المبرد !

وعندما تصل المفاوضات العائلية إلى طريق

مسدود .. يصاب الحبيب باليأس ، ويتخيل نفسه في

أرض قفرة موحشة ليس بها حياة .. إنها العزلة القاتلة

بعيدا عن المحبوب :

وقد أبعدوني عن حبيب أحبه
فأصبحت في قفر عن الأنس نازح
أعاتب دهرا لا يلين لناصح
وأخفى. الجوي في القلب والدمع فاضحی

ويبدو أن حوارا لم نعرف تفاصيله .. أو مناقشات

أو مناجاة ... كانت دائرة بين الحبيبين ، وإن كانت لم

تتعد النصيحة الموجهة منها إليه بأن يحرص على حياته

وأن يكف عن خوض المعارك الجسورة حفاظا على

سلامته .. فنراه يسمع النصيحة ولكنه لا يعمل بها ..

لعله أصيب باللامبالاة بعد أن سيطر عليه اليأس القاتل

.. فأخذ يتغنى بالتبل والشجاعة والإقدام لأنها كل

ما تبقى له في حياته الخاوية .. فنراه في أشعاره يقول :
بكرت تخوفني الحتوف كأنني

 أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل

 فاجبتها ان المنية منهل

لا بد أن أسفی بكأس المنهل

فاقنى حياءك لا أبالك واعلمی

أني أمرؤ سأموت إن لم أقتل

وظل البطل الشاعر يرقى إلى أسمى المنازل في الفصاحة

والفروسية .. ولكنه كسير القلب حسير النفس محطم

الوجدان ... وطال به العمر حتى بلغ التسعين .. إلى أن مات

في عام ۲۰۰ میلادية ( وفي رواية أخرى مات عام 615 م)

قبل بعث الرسول عليه الصلاة والسلام بخمسة أعوام


( أو بعد البعث بعشرة أعوام في الرواية الأخرى ) ..

وإن لم تبلغه دعوة الإسلام على أية حال .. وقيل إنه قتل

بسهم في إحدى المعارك .. وقيل في بعض الروايات

إنه مات مع الكثيرين من أفراد قبيلته على أثر ريح رملية
عاتية طمرتهم ،

ولكن قصته مع ملهمته وحبيبته صارت مضرب

الأمثال .. وقد أطلق على ملاحمه البطولية الشعرية :

« إلياذة العرب »

تشبها بإلياذة هوميروس

الإغريقية .. وترك لنا من الشعر العذب الرقيق قرابة

عشرة آلاف بیت بيت من عيون الشعر العربي السهل

المرسل .. وقد وضعه الشعراء والفلاسفة الغربيون في

مصاف أبطال الملاحم العالمية الكبرى .

وأصبحت سيرة «عنترة وعبلة » أنشودة حب

وهمسة مناجاة على شفاه المحبين في كل زمان و مکان ،

ليس في عالمنا العربي فحسب ، بل ترجمت إلى اللغات

العالمية منذ أوائل القرن الثامن عشر . وإن كانت ملهماتنا .

 ينعمن بالقرب من المحبين ، كما ينعم المحبون بقربهن ..

 إلا أن ملهمتنا هذه المرة كانت في منازل الأفلاك العلوية 

بعيدا عن حبيبها .

إنها وإن تعالت على حسبه ونسبه ، إلا أنها ألهمته

البطولة الفذة والشاعرية العبقرية حتى ارتفع قدره في

قومه .. وكان أمله أن يكون جديرا بأن يرقى إلى

مكانته الفوقية .. ولكنه عاش مكبلا بقيود اللون

والأصل وأدران العنصرية .. و لم يكف يوما عن

الشوق إليها والتغني بحبها حتى بلغ من السن عتيا ،

وأخيرا ، أذابت عواطفه المستعرة عمره اليائس ،

وأحالته إلى أطلال تهتف حتى الرمق الأخير بنداء

حبيبته الملهمة   .


الفارس عنترة بن شداد




المرجع : الملهمات في الفن والتاريخ  ،جمال قطب 



التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

Ra'ed Al-khawaldeh Art

2016